بيروت أم الشرائع – إعداد د. أميره أبو مراد

شعار أطلقه العالم المتمدّن ، منذ سبعة عشر قرناً من الزمن ، على مدينة بيروت ، التي اختارها العالم ، اليوم ، لتكون عاصمة عالمية للكتاب.
فما هي الحقيقة التاريخية لهذا الشعار ، وما هو مدى انطباقه على الواقع الحاضر ، وإلى أيّ حدّ يمكن التفاؤل باستعادة هذا المجد التليد للمستقبل ؟؟

أولاً ، تاريخياً :
بعد أن غزا الرومان ، عسكرياًَ ، معظم دول العالم القديم وأخضعوه لسلطانهم ، وأسّسوا امبراطورية عظمى ومترامية الأطراف ، كان افتخارهم الأول منصباً على ما قدّموه للعالم من شرائع وافرة ومتطوّرة ؛ وقد قال عنهم الفيلسوف الألماني الشهير إيهرنغ (في كتابه روح القانون الروماني l’Esprit du Droit Romain) أنّ الرومان خُلقوا ليحملوا رسالة القانون إلى العالم … ، وانّ روما غزت العالم ثلاث مرّات : المرّة الأولى بجيشها ، والمرّة الثانية بدينها ، والمرّة الثالثة بشرائعها ، والغزو الثالث هو الأهمّ والأبعد مدى.
فكيف نشأ القانون الروماني ، وكيف تطوّر حتى تولّدت عنه معظم الشرائع المدنية الحديثة السائدة اليوم في غالبية دول العالم المتحضّر ؟!. وما هو دور بيروت ، خلال الزمن المنصرم ، في إحداث تلك الولادات حتى استحقّت ، عن جدارة ، لقب
“أم الشرائع” و”الأم المرضعة للحقوق” ؟؟ كما استحقّ فقهاؤها ، وأساتذة مدرستها الحقوقية “بيريت” لقب العلماء العالميين (les maîtres œcuméniques)!.

تأسّست مدينة روما على يد رومولوس (Romulus) ، الذي أعطاها اسمه ، في أواسط القرن الثامن قبل الميلاد ، من اندماج القرى السبع الكائنة على ضفّتي نهر التيبر، في وحدة سياسية ، متضامنة ، من أجل توحيد العبادة فيها وإنشاء تحالف عسكري قوي بقيادة موحّدة. وبذلك ، تشكّلت “المدينة – الدولة” ، في نظام ملكي حلّ محل نظام العشائر الذي كان سائداً قبله. هذه الدولة ، الحديثة الولادة ، ذات الإقتصاد الزراعي البدائي والمجتمع المغلق ، لم تكن محتاجة ، ولا مهيّأة – في تلك المرحلة – لأكثر من القواعد القانونية المبنيّة على العرف والعادة. وقد استمرّ هذا الوضع على هذه الحال حتى أواخر القرن السادس قبل الميلاد ، حين غزا شعب الأتروسك المنطقة ، وترك بصمات حضارته عليها. وفي العام 509 ق.م. ثار الرومان على ملكهم
تاركان العظيم (Tarquin le Superbe) وقتلوه ، وطردوا شعب الأتروسك ، وأقاموا النظام الجمهوري.
وحيث أنّ الشرائع تولد وتتطوّر وتتعدّل ، نوعاً وكمّاً ، تبعاً لواقع المجتمع المعني بها ، ولتبدّل أوضاعه وظروفه الخاصة من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ، فإنّه يصبح من البديهي ، بل من الضروري إلقاء نظرة ، ولو خاطفة ، على مختلف المراحل والظروف التي مرّت فيها الدولة الرومانية ، عبر عمرها الطويل ، من أجل استجلاء العناصر الرئيسية لهذا البحث.
لقد أنتج تحالف القرى السبع ، الذي تشكّلت منه مدينة روما ، قوّة عسكرية ، سمحت له بالتوسّع الجغرافي على حساب جاراته : ممّا أحدث تعديلاً ، إيجابياً ، في الإقتصاد الروماني ، نوعاً وكمّاً ؛ كما حوّل الشعوب المغلوبة إلى ما يشبه الرقيق لديها، حيث أمكن استخدامهم في أعمال الزراعة وسواها … ، دون تمتيعهم بالحقوق المعترف بها لشعب روما.
كما أنتجت هذه الفتوحات ، وما تبعها من ازدهار اقتصادي لمدينة روما ، تصنيف الشعب الروماني نفسه في طبقتين اجتماعيتين أساسيتين ، وهما :
طبقة الأشراف ، وهي الفئة الميسورة وتضمّ أهل الحكم ورجال الدين وكبار التجّار والملاّكين الزراعيين ، وطبقة العامة التي تتحمّل عبء الضرائب وواجب القتال في حروب روما التوسّعية.
وكان القانون ، في حينه ، ما زال عرفياً شفوياً ؛ ومعرفته محصورة في رجال الدين ، الذين كانوا يفسّرونه – مزاجياً – في كلّ مسألة نزاعية ، لصالح أقربائهم من طبقة الأشراف ضدّ أبناء الطبقة العامة.
هذا التمايز الفاضح ، والمتراكم ، في الحقوق والواجبات بين مختلف فئات المجتمع الروماني ، قد أدّى إلى ثورة قامت بها طبقة العامة ضدّ الطبقة الحاكمة ، مطالبة بتدوين الشرائع المعتمدة ، وإعلانها ، ليتاح الإطّلاع عليها من الجميع ؛ ومطالبة بتحقيق المساواة بين المتقاضين أمام القانون ، بصرف النظر عن انتمائهم الطبقي ووضعهم الإجتماعي.
أمام هذه الضغوط العنيفة ، صدر ، عام 451 ق.م. ، أوّل تدوين للأعراف الرومانية والحِكم السائدة في حينه (تركّزت بنوع خاص على تحديد أنواع الجرائم ، وعلى أنواع الدعاوى وإجراءات التقاضي) ، على ألواح عشرة ، عُلِّقت في وسط ساحة المدينة ؛ وأُتبعت ، بعد ذلك ، بلوحين آخرين (شملت حقوق العائلة وحق الملكية وقواعد الإرث ، والعقود …) ، فأصبح المجموع إثني عشر لوحاً. لقد أدّى هذا التدوين ، الأول من نوعه في تاريخ الدولة الرومانية ، إلى تضييق الهوّة في الحقوق والواجبات ، التي كانت قائمة بين كلّ من طبقة الأشراف وطبقة العامة ، وإلى نشر القواعد القانونية السائدة وإعلانها وإخراجها من السرّية ومن احتكار معرفتها من قبل رجال الدين وبعض الأشراف ، وإلى وضع حدّ للتصرّف الكيفي والتعسّفي من قبل هؤلاء أمام القضاء.
هذه الألواح الإثني عشر ، الهامة جداً في تاريخ القانون الروماني ، قد دُمّرت في حريق روما عام 390 ق.م. ؛ وقد أعيد جمع نصوصها ، لاحقاً ، بلغة عصرية ، عن طريق استنتاجها من تعليقات فقهاء القانون وكتابات الخطباء والشعراء والمؤرّخين، المعاصرين لها.
هذا التدوين للقواعد القانونية ، الذي جاء نتيجة مطالبات عديدة وعنيفة من قبل الطبقة العامة ، وثمرة جهد تشريعي كبير ، قد اكتسب هالة من القداسة ، فأصبح من العسير المسّ به تعديلاً أو تبديلاً ، لمواجهة مستجدّات التعامل بين الناس بفعل تطوّر الحياة الدائم عبر الزمن.
تجدر الإشارة ، هنا ، إلى أنّ حقّ التمتّع بتطبيق القانون الروماني ظلّ محصوراً بالشعب الروماني ، من دون سائر الشعوب الأجنبية الخاضعة لسلطة روما ، وذلك حتى تاريخ صدور قانون كركلا عام 212 م. الذي أتاح لتلك الشعوب إمكانية اكتساب الجنسية الرومانية.
خلال العصر الجمهوري (509 ق.م. – 27 ق.م.) ، أُنجزت معظم الفتوحات الرومانية ، فبسطت هذه الدولة سلطتها على الأرض وخيراتها ، وعلى الناس الذين جرى استخدامهم كيَدٍ عاملة في الإنتاج وكمستهلكين له. هذا المُعطى قد أنتج إزدهاراً إقتصادياً ملحوظاً ورخاءً اجتماعياً عاماً ، أدّى إلى إزدياد التعامل ، نوعاً وكمّاً ، بين مختلف الشعوب المنضوية تحت سلطة الرومان ، فيما بينها من جهة ، وبينها وبين الشعب الروماني من جهة أخرى : ممّا استوجب خلق قواعد قانونية جديدة لتفي بحاجات هذا التعامل وبمتطلّبات مسائله المستجدّة باستمرار.
وحيث أنّ المحتلّ الروماني كان يختزن في داخله شعوراً بالتفوّق على الشعوب التي أخضعها لسلطانه ، فقد استكثر على هذه الشعوب الأجنبية حقّ التمتّع بالقانون الروماني. ثمّ انّه استحدث ، عام 367 ق.م. ، منصب الحاكم القضائي ، المسمّى بريتور ، وأناط به أمر الإشراف على تطبيق القانون الروماني وعلى حسن سير القضاء، في كلّ مرّة يكون فيها طرفا النزاع رومانياً. ثمّ أُنشئ ، عام 242 ق.م. ، منصب بريتور الأجانب ، الذي يرعى شؤون العدالة حيث يكون طرفا النزاع أو أحدهما على الأقلّ ، أجنبياً.

فماذا كانت النتيجة ؟
* من جهة : كان إعجاب الرومان بتشريعاتهم شديداً ، بدءاً من قانون الألواح الإثني عشر والقوانين الوضعية الأخرى التي تلته ، فبدت هذه التشريعات عصيّة على التعديل والتطوير الضروريين لمجابهة المسائل الحياتية المستجدّة. هذا ، فضلاً عن تقييد العدالة بالنصّ الحرفي للقانون ، على حساب المعنى ، وطغيان الإجراءات الشكلية في الدعاوى ، المحدّدة أصلاً في أنواعها وفي إجراءاتها : ممّا انتقص من توفير العدالة في مفهومها الصحيح.
* ومن جهة أخرى : كانت الشعوب الأجنبية ، التي أخضعها الرومان لسلطانهم، تمارس أعرافها الذاتية لدى التعامل في ما بينها ، لا سيّما تلك التي كانت مشتركة ومتّصفة بالعمومية ومتطابقة مع متطلّبات الحياة المستجدّة : ممّا أسهم في اتساع تعميمها ، وترسيخ التعامل بها بكلّ بساطة ودون قيود شكلية تحدّ من فعاليتها. وقد ساهم في تحقيق ذلك ، تدخّل بريتور الأجانب في كلّ مرّة كانت متطلّبات العدالة تقتضي هذا التدخّل. هذه القواعد القانونية الحديثة الولادة ، والمستخلصة من زبدة تجارب تلك الشعوب الأجنبية ، مجتمعة ، بإشراف مباشر من بريتور الأجانب ، قد كوّنت ما سُمّي بـ “قانون الشعوب”، المتّسم بالسهولة والوضوح وبعيداً عن الإجراءات الشكلية المسيطرة على القانون الروماني ، وعن قيود التدوين.
عندها ، أدرك الرومان مساوئ الثبات والتحجّر في النصوص القانونية ، ولمسوا تفوّق قانون الشعوب على القانون الروماني ، فراحوا يقتبسون ، تباعاً ، قواعد قانون الشعوب ، الواحدة تلو الأخرى ، ويُدرجونها في تشريعاتهم الوضعية الجديدة. وهكذا ، تسرّبت غالبية القواعد القانونية من قانون الشعوب إلى القانون الروماني ، وتضاءلت الفوارق بينهما بنسبة مرتفعة.

إذن :
إغناء القانون الروماني ، وتطويره لجهتي الشكل والأساس ، قد حصلا – ولو بطريقة غير مباشرة – على يد كلّ تلك الشعوب الأجنبية المنضوية تحت سلطان الدولة الرومانية ، مجتمعة ، ومنها الشعب اللبناني !!. هذا ، دون أن ننسى ، أو نقلّل من أهمّية دور الفقهاء في هذين المجالين ، حيث كان لبيروت الموقع الأبرز في علمنته وفي تغذيته وتجميعه ونشره ، فضلاً عن تخزينه وتعليمه.
في الحقبة الأخيرة من العصر الجمهوري كانت روما قد أتمّت فتوحاتها لبلدان حوض البحر الأبيض المتوسّط ، وتقدّمت نحو الغرب ، ثمّ فتحت بلاد الغال (Gaule) وبريطانيا. والإقدام على تلك الفتوحات والأعمال الحربية الضخمة كان لا بدّ أن يسبقه تركيز على أهمّية الجيش ، وعلى منح المعنويات القوية والصلاحيات الفعلية الواسعة للعسكريين ، من أجل تحقيق هكذا فتوحات. ثمّ إنّ الانتصارات الهائلة في هذا المجال ، التي حقّقها القادة العسكريون ، قد مكّنتهم من نفوذ متزايد في الداخل ؛ ثمّ صار كلّ واحد منهم يدّعي لنفسه الفضل الأول ، وربّما الفضل الأوحد ، في إنجاز تلك الفتوحات وتحقيق العظمة للدولة الرومانية. فنشأ ، من جرّاء ذلك ، نزاع حادّ في ما بينهم من أجل الإستيلاء على الحكم. وصار كلّ واحد منهم يتصرّف وكأنّه السيّد المطلق ، إلى أن اختفى النظام الجمهوري وحلّ محلّه النظام الامبراطوري على يد اغسطس عام
27 ق.م.
نتيجة ذلك : بدأت المجالس الشعبية ، التي كانت قائمة خلال العصر الجمهوري، تفقد صلاحياتها التشريعية أمام مجلس الشيوخ ؛ ثمّ انّ الامبراطور ، بدوره ، إنتزع السلطة ، تدريجياً، من مجلس الشيوخ ، وانفرد ، وحده ، بكامل الصلاحيات وبالسلطات المطلقة ، بما في ذلك سلطة التشريع.

لقد مرّت الامبراطورية الرومانية في مرحلتين تاريخيتين ، أساسيتين ومتتاليتين، وهما :
1- عصر الامبراطورية العليا (le Haut Empire) الذي اتّسم بالقوّة السياسية وبالازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي والغنى الثقافي ؛ وقد امتدّ منذ العام
27 ق.م. حتى بدء ولاية الامبراطور ديوكلسيان (Dioclétien) عام 284 م.
2- عصر الامبراطورية السفلى (le Bas Empire) ، الذي اتّسم بالتقهقر على كافة الأصعدة بما في ذلك في مجال التشريع والفقه القانوني.
ثمّ انتهت هذه المرحلة الثانية بانقسام الامبراطورية الرومانية ، عام 395 م ، سياسياً وإدارياً وعسكرياً ، إلى شقّين :
– غربي ، عاصمته روما ؛
– شرقي ، عاصمته القسطنطينية ؛ وكانت بلادنا ، بحكم موقعها الجغرافي ، تابعة للقسم الشرقي.
ثمّ ما لبث القسم الغربي أن اندحر أمام غزو البرابرة الجرمان له ، عام 476 م، فانتهى أمره. بينما استمرّ القسم الشرقي حتى تاريخ غزو الأتراك العثمانيين له ، وسقوط القسطنطينية في أيديهم عام 1453 م. ثمّ سقطت بلادنا ، مباشرة ، في أيدي الأتراك عام 1516 م. ، في معركة مرج دابق ؛ واستمرّت خاضعة لحكمهم طيلة أربعة قرون من الزمن ، فأصيبت بنوع من الجمود والتخدير في طاقاتها كافة ، بما فيها الفكرية والثقافية ، وبالتالي الإبداع القانوني.
إنّما :
خلال التاريخ الروماني ، الحافل بالأحداث المفصلية المؤسِّسة للتشريع الخلاّق ، لم تفقد بيروت – قط – موقعها المميّز فيه ، بل أنّ دورها قد ظلّ فاعلاً ، وبقوّة ، ضمن ورشة صناعة القانون الروماني ؛ هذا القانون الذي أصبح – فيما بعد – الجدّ الشرعي لتشريعات معظم دول العالم المعاصر ، ومنها تشريعاتنا اللبنانية الحاضرة.
تنبغي الإشارة ، هنا ، إلى أنّ عصر الإمبراطورية العليا قد سمّي العصر العلمي نظراً للإزدهار الذي حقّقته تلك الدولة الفتيّة ، والقويّة ، خلاله. ذلك أنّ النظام السياسي الجديد للبلاد قد بدأ قوياً ، فساد الأمن في الداخل والإستقرار في العلاقة مع الخارج ؛ كما أنّ الأراضي الشاسعة والمتمتّعة بمناخات مختلفة ، التي استعمرها الرومان ، مضافاً إليها اليد العاملة المأخوذة من السكّان المحلّيين ، قد أمّنت الحصول على إنتاج زراعي وفير ومنوّع ، ومؤسّس لعدد من الحرف المنتجة إقتصادياً. كلّ ذلك ، مجتمعاً ، قد أثمر إزدهاراً إقتصادياً ملحوظاً ، وبالتالي رخاء اجتماعياً بين الناس ، من رومان ، ومن أجانب واقعين تحت السيطرة الرومانية : فكثر التعامل بين الناس ، نوعاً وكمّاً ، واستوجب إصدار تشريعات جديدة ومتطوّرة ، من أجل ملاقاة ومواجهة كلّ
تلك التطوّرات.
وحيث أنّ التشريع يصاغ ، في الأساس ، في عبارات عامة ، فكان لا بدّ لتطبيقه، من قبل القضاء ، على الحالات الخاصة المعروضة أمامه ، من شرحه وتفسيره على يد الفقهاء المتضلّعين في معرفته. وقد جعل هؤلاء الفقهاء ، من القانون ، علماً قائماً بذاته ؛ وفرّقوا بينه وبين قواعد الدين والفلسفة والأخلاق ؛ ووضعوا له التقسيمات والتفريعات ؛ واستنبطوا ، من الحلول الفردية ، القواعد العامة المجرّدة ؛ وبيّنوا سبل تفسير القواعد العامة لتتلاءم مع متغيّرات المجتمع.
ومن الجدير ذكره أنّ نخبة مرموقة من أولئك الفقهاء كانوا لبنانيين ، أو ممّن اتخذوا بيروت مقرّاً لإنتاجهم الفكري ، أمثال الفقيه بابنيان الذي لُقّب بأمير الفقهاء ، وبولس وأولبيان وجوليان وبومبونيوس وسكافولا ومرسليوس وغايوس ، وسواهم.
هذه الحركة التشريعية الواسعة ، والفقه القانوني المزدهر ، قد استوجبا إنشاء المدارس الحقوقية لتدريسهما فيها ؛ فقامت مدارس الحقوق الرومانية في المدن الرئيسية للإمبراطورية، منها: مدرسة روما ومدرسة القسطنطينية ، ومدرسة الاسكندرية (مصر) ومدرسة القيصرية (فلسطين) ومدرسة أثينا ، ومدرسة بيريت (Beryte) في بيروت
التي كانت أهمّ كلّ تلك المدارس وأوسعها شهرة ، حتى دُعيت بحق ،
“أم الشرائع” و”الأم المرضعة للحقوق”، ووُصف أساتذتها بالعلماء العالميين
(les maîtres œcuméniques).
قليلة جداً هي المراجع العلمية التي تضمّنت دراسة مفصّلة ووافية عن هذه المدرسة العظيمة. غير أنّ أستاذاً في كلّ من جامعتي باريس وليل (Lille) ، في فرنسا، هو السيد بول كوللينه (Paul Collinet) ، قد وضع كتاباً ، من 333 صفحة من الحجم المتوسّط ، بعنوان : تاريخ مدرسة الحقوق البيروتية (Histoire de l’Ecole de droit de Beyrouth) ، نشرته دار سيراي (Sirey) في باريس عام 1925. وقد ذكر هذا البروفسور أنّ مؤلَّفاً جماعياً ، يعود للعام 1716 ، أشرف عليه الأستاذ في جامعة برام (Brème) الألمانية ، جاك هاز (Jacques Hase) ، قد خصّ مدرسة بيروت الحقوقية بقسم منه ؛ وأنّ هذا الكتاب موجود ، حالياً ، في مكتبات باريس الرئيسية.
كما أدرج الأستاذ بول كوللينه ، في كتاب آخر له ، صادر عن دار سيراي – باريس ، عام 1938 ، بعنوان : Mélange à la mémoire de Paul Huvelin
بحثاً في الإثبات المباشر لتأثير تعليم بيروت على تقنينات جوستنيان
(Les preuves directes de l’influence de l’enseignement de Beyrouth sur la codification de Justinien).
هذه المدرسة ، التي نشأت في عصر الامبراطورية الرومانية العليا ، لم تنحدر مع انحدار هذه الامبراطورية ؛ بل أنّها زادت تألّقاً وشموخاً ، حتى أنّها كسفت ، بإشعاعها ، كلّ ما عداها من المدارس الحقوقية الرومانية الأخرى.
وحيث أنّ التشريع ، في وجه عام ، في بلد معيّن ، يشكّل انعكاساً لواقع الحياة المعاشة ولمسائلها الشائكة المطروحة للحلّ ، في زمن معيّن : فإنّ التراجع ، على كافة الأصعدة ، بما في ذلك التشريع ، قد أصاب الامبراطورية الرومانية في أواخر القرن الثالث ، فدُعيتْ – بعد الإزدهار ، ونتيجة هذا الإنحدار – بالامبراطورية السفلى.
عندها، وفي غياب الجديد والقيّم من القوانين الوضعية ، راح بعض المتطوّعين، من غير الرسميين ، يحاول تجميع القديم من التشريع ، ولو بصورة مجتزأة : فكانت المجموعة الغريغورية ، للفقيه غريغوريوس ، الذي قام بتجميع الدساتير الصادرة منذ العام 196 وحتى العام 291 ؛ ثمّ المجموعة الهرموجينية ، للفقيه هرموجينوس ، الذي جمع الدساتير الإمبراطورية الصادرة خلال العامين 293 و294. بعدها ، أنجزت لجنة رسمية ، متخصّصة ، تجميع الدساتير الصادرة منذ العام 312 حتى العام 438 ، في مجموعة سُمّيت القانون التيودوزي (Code théodosien).
كما أنّ الفقيه جوليان ، الأستاذ في مدرسة بيريت ، قد وضع مختصراً للدساتير الامبراطورية ، كافة.
غير أنّ الامبراطور جوستنيان (527 – 565 م) ، في غيرة منه على التراث القانوني الروماني الضخم ، وخشية ضياعه ، قد أمر بوضع مجموعات قانونية تشمل التشريعات الرومانية كافة.
هذا العمل التشريعي الضخم قد جاء بفائدتين عظيمتين ، وهما :
1- تمكين وتيسير الإطّلاع على قواعد القانون الروماني ، دونما حاجة إلى التنقيب في الكتب القديمة ، وفي خزائنها العديدة ، هنا وهناك ؛
2- حفظ وتخليد هذا القانون ، باعتباره تراثاً عالمياً نفيساً ، ينطق بعبقرية أولئك الذين اشتغلوا في علم القانون ، ووضعوا أصوله التي ما زالت راسخة ومعمولاً بها حتى اليوم.
لقد جرى ، بأمر من الامبراطور جوستنيان ، تجميع الدساتير الامبراطورية في مجموعة سُمّيت Codex ؛ كما جُمع القانون المدني (Jus) من كتابات فقهاء العصر العلمي ، في موسوعة سُمّيت ديجستا (Digesta) ، نشرت عام 533 ؛ وقد شارك
اثنان من أساتذة مدرسة بيريت في كتابة الديجستا ، وهما : دوروته (Dorothée) وأناتول (Anatole). ثمّ جرى نشر موجز لكتاب النظم ، للفقيه غايوس ، الذي اعتمد لاحقاً ، وبصورة أساسية ، في تدريس الحقوق في المدارس الرومانية.
كما أعطى الامبراطور جوستنيان تعليماته ، إلى اللجنة المولجة بالمهمّة ، باختصار النصوص الفقهية ، وحذف الزيادات غير المفيدة منها من أجل توفيق هذه النصوص مع الأوضاع القانونية والإجتماعية السائدة في العصر الذي جمعت فيه.
وهذا العمل التشريعي الضخم قد حصل في بيروت ، وبمشاركة أساسية من أساتذة مدرسة بيريت بالذات.

أمّا في الفترة الزمنية لحياة هذه المدرسة الحقوقية التاريخية ، ومكانها :
أ- من حيث الزمان :
إنّه من المرجّح ، بنسبة مرتفعة جداً ، أنّها قد تأسّست في أواخر القرن الثاني الميلادي ، في حدود العام 196 م ؛ واستمرّت قائمة ، ومزدهرة ، حتى العام 551 م حين ضرب مدينة بيروت زلزال هائل ، تبعه مدّ من البحر وحرائق في الداخل ، حيث انشقّت الأرض وابتلعت الأبنية ، بما في ذلك مدرسة بيريت العظيمة وموجوداتها وكنوزها القانونية الثمينة.
لقد ابقى الامبراطور جوستنيان على مدرسة القسطنطينية وروما فقط ، إضافة إلى مدرسة بيروت ؛ في حين أنّه ألغى مدرسة الإسكندرية والقيصرية ، وسواهما ، بعد إلغاء مدرسة أثينا. وقد أشار جوستنيان إلى أهمّية مدرسة بيروت في إثنين من الدساتير، اللذين شكّلا مقدّمة الديجستا ، الصادرين عنه في 16-12-533.

ب- ومن حيث المكان :
كانت مدرسة بيريت تشغل المساحة الممتدّة من منطقة التياترو الكبير وكنيسة مار جرجس المارونية وسوق السمك ، في وسط المدينة ، حتى مدرسة الحكمة الحالية. وكان الأمل كبيراً بانتشال أعمدتها ومقتنياتها وما سلم من كتبها وكنوزها قبل إقامة “السوليدار” ؛ غير أنّ ذلك الأمل يتحقّق (!؟!).
بعد تهدّم مدرسة بيروت بالزلزال عام 551 ، نشأت مدرسة ، بديلة ، للحقوق في صيدا ؛ غير أنّها لم تنجح ، ولم تعمّر.
وعام 600 كانت بيروت ما تزال منهكة من حالة الدمار التي أحدثها ذلك الزلزال الفظيع ، فلم تصمد أمام الفتح الاسلامي لها ، الحاصل عام 635.
هكذا ، أُسدل الستار ، في حينه ، على أهمّ صرح أكاديمي في تاريخ القوانين ، بعد إشعاع امتدّ وهجه بعيداً في الزمان والمكان ، وما زال العالم يعيش في دفئه
حتى اليوم.
لم يقتصر تعليم مدرسة بيروت للحقوق على طلاّب المدينة وجوارها ، بل أنّ الطلاّب كانوا يؤمّونها من مختلف أنحاء الامبراطورية الرومانية ، وخاصة من المقاطعات الشرقية.
كما أنّ التدريس كان يتمّ ، فيها ، بادئ الأمر ، باللغة اللاتينية ، ثمّ تحوّل إلى اللغة اليونانية التي كانت لغة العلم والفلسفة في ذلك الوقت. وكان الأساتذة فيها يعمدون، أحياناً ، إلى ترجمة القوانين الرومانية إلى لغة السكّان المحلّيين لتمكين هؤلاء من استيعابها. كان الأستاذ يعطي خلاصة للفصل ، أو موجزاً للنصّ المنقول عن مؤلّفات العصر العلمي ، ويعيّن مصدر هذا النصّ بالضبط ؛ ويبدي ، أحياناً ، ما لديه من رأي وملاحظات حول موضوع الدرس ، أو يستشهد بآراء الفقهاء المشهورين وبتفسيراتهم. وكانت مدّة الدراسة أربع سنوات ؛ وهنالك سنة خامسة مخصّصة لمن يبغي دراسة الدساتير الامبراطورية. وكانت مؤلّفات فقهاء العصر العلمي معتمدة كمراجع
أساسية للدراسة.

مرحلة ما بعد جوستنيان :
1- في الشرق :
كانت مجموعات جوستنيان قد حوت آخر ما توصّلت إليه القوانين الرومانية من نموّ وتطوّر خلال حقبة من الزمن نافت على الألف عام. وإذ كان هذا الإمبراطور شديد الاعتزاز بهذا التراث القانوني الضخم ، وبما أنجزه من تجميعات ، فقد راح يتّخذ الإجراءات التي من شأنها المحافظة عليها ومنع المسّ بها. ورفض كل شرح لها أو تعليق أو نقد أو مناقشة ؛ باستثناء ترجمتها إلى اللغة اليونانية فقط ، التي كانت في ذلك الوقت لغة العلم والفلسفة. ومع ذلك ، كان أساتذة الحقوق يضطرّون ، أحياناً ، إلى ترجمة بعض النصوص إلى لغة السكّان المحلّيين ، وإلى إبداء الشروحات والتعليقات والمختصرات لها ، لتسهيل فهمها على الطلاّب. وقد وضع الأستاذ تيوفيل (Théophile) ترجمة لكتاب النظم إلى اللغة اليونانية ، وأرفقها بشرح له ، فكان لمؤلّفه هذا انتشار واسع في الشرق.
في القرن التاسع أُدخلت تعديلات كثيرة على أحكام القانون الروماني. ثمّ أعاد الامبراطور ليون الحكيم (Léon le sage) صياغة كلّ من مجموعة القوانين والموسوعة (الديجستا). بعد ذلك ، قام الامبراطور باسيل (Bassil) بوضع مجموعة جديدة من النصوص تضمّنت مختصراً للقوانين الرومانية ؛ وقد بلغت هذه المجموعة ستين جزءاً، وأصبحت هي المطبّقة في الشرق. واستمرّ الأمر كذلك حتى سقوط القسطنطينية بيد الأتراك العثمانيين عام 1453.

2- في الغرب :
أُهمل القانون الروماني كلّياً خلال القرون الأولى من العصور الوسطى ؛ واستمرّ مهملاً حتى قيام حركة بعثه من جديد ، في أوروبا الغربية.
أ- في ايطاليا : في أوائل القرن الثاني عشر ، بعد عودة الحياة الاقتصادية في ايطاليا إلى الإزدهار ، وبروز الحاجة لتنظيم العلاقات التجارية على أسس قانونية جديدة، ظهرت حركة إحياء القانون الروماني لبعثه من جديد ، إنطلاقاً من مجموعات جوستنيان. ثمّ ظهرت في القرن الرابع عشر ، بقيادة الفقيه بارتول ، حركة فقهية جديدة ركّزت على استخلاص القواعد القانونية الحيّة من نصوص التشريع القديم.

ب- في فرنسا : خلال القرن السادس عشر ظهرت حركة فقهية ، علمية بحتة ، بقيادة كوجاس (Cujas) ، هدفت إلى دراسة أمينة للقانون الروماني على ضوء ظروف نشأته وكافة معطيات تكوينه الأساسية. وصار لهذا الفقيه أتباع كثيرون في أنحاء عديدة من القارة الأوروبية. عمدت هذه الدراسة إلى التقصّي عن تاريخ الرومان ، وعن عاداتهم وآدابهم ولغتهم ، للإحاطة الكلّية بظروف تكوّن قوانينهم وبكيفية تطوّرها لاحقاً. وقد أدّى هذا الغوص في أعماق عملية ولادة النصوص القانونية ، وفي كيفية نموّها وتطوّرها ، إلى استخراج أسسها الأصلية ومبادئها التجريدية ، ومن ثمّ التوصّل إلى حلّ الكثير من المسائل التي كانت موضوع نقاش وجدل قانوني.
ثمّ انتعشت هذه الحركة من جديد ، في القرن السابع عشر ، في فرنسا ؛ وكان أشهر الفقهاء المشتغلين في نطاقها الفقيه بوتيه (Pothier) ، الذي وضع مؤلّفات فقهية معمّقة وشاملة ، قارب عددها الثمانية عشر كتاباً.
وحين أراد نابوليون أن يقنّن الحقوق الفرنسية ، في مطلع القرن التاسع عشر ، اعتمد على كتب الفقيه بوتيه وأتباعه ، فكانت مؤلّفاتهم المنهل الأساسي لتلك التقنيات الفرنسية الشهيرة ، والتي أصبحت – بدورها – منهلاً للتشريعات الحديثة في معظم البلدان الأوروبية ، وسواها.

ج- في تركيا :
كانت الشريعة الإسلامية ، وحدها ، المطبّقة لديها ، بادئ الأمر. غير أنّ الضغوطات الداخلية التي مارستها الشعوب الواقعة تحت سيطرتها ، كما الضغوطات الخارجية الآتية من الدول الأوروبية ، قد اضطرّتها إلى إصدار قوانين مدنية مستقاة من تقنيات فرنسا وإيطاليا ، ذات الجذور الرومانية. وقد طبّقت هذه القوانين العلمانية ، المستحدثة ، على الأراضي العثمانية ، وعلى الدول الخاضعة لسلطتها ومنها لبنان ؛ مع بقاء موضوع الأحوال الشخصية خاضعاً للشرع الطائفي. وهذا ، إلى جانب مجلّة الأحكام العدلية (الصادرة عام 1976) التي نظّمت قواعد الإلتزام ، والعقود … وفق مبادئ المذهب الحنفي.

ثانياً ، حالياً ، في لبنان :
لقد نامت الحقوق ، وعلومها ، في سبات عميق طوال حقبة السيطرة العثمانية على بلادنا ، التي دامت أربعة قرون كاملة. فلا تشريعات حديثة خاصة بلبنان ، ولا مدارس للحقوق فيها. وحين بدأ التسلّل الثقافي الأوروبي إلى عمق المناطق الواقعة تحت السيطرة العثمانية ، توصّلت فرنسا إلى إنشاء معهد للحقوق الفرنسية في بيروت ، عام 1913 ؛ وعهدت برعايته إلى الآباء اليسوعيين.
ولدى انهزام دول المحور ، أمام الحلفاء ، في الحرب العالمية الأولى ، إنتقلت الوصاية على لبنان من تركيا إلى فرنسا ، وفق ما نصّ عليه صك الانتداب. وقد دام هذا الأمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ، حين أُعلن استقلال لبنان عام 1943.
خلال فترة الانتداب الفرنسي ، الواقعة ما بين الحربين العالميتين ، كان من الطبيعي جداً أن تنهل القوانين اللبنانية ، الصادرة خلال تلك الفترة ، من التشريع الفرنسي ، خصوصاً أنّ فرنسا ، بذاتها ، قد أصبحت صاحبة القرار المباشر ، والوحيد، في هذا الشأن ؛ وانّ المؤهّلين الوحيدين ، من اللبنانيين ، للإشتغال في مجال إعداد القوانين ، كانوا من خريجي المدرسة الفرنسية للحقوق ، التي كانت ما تزال وحيدة في هذا المجال ، في لبنان.
وبعد اعلان استقلال لبنان ، وخروج فرنسا منه ، لم يكن هنالك مبرّر ، لدى المشترع اللبناني ، للتخلّي عن القوانين المستقاة من التشريع الفرنسي ، فتابعت مسيرة التقنين تقدّمها في ذات الإتجاه ؛ بل أنّنا ما زلنا ، حتى هذه الساعة ، نستقي مباشرة ، وأحياناً بصورة ببغائية ، تشريعاتنا من المنهل الفرنسي. هذا ، باستثناء موضوع الأحوال الشخصية الذي ما زال خاضعاً ، في بلادنا ، كما في غالبية الدول العربية ، إلى التشريع الطائفي ؛ علماً أنّ الدولة اللبنانية ملزمة – بموجب القرار التشريعي الصادر برقم 60 ل.ر. وتاريخ 13 آذار عام 1936 – بإصدار قانون مدني للأحوال الشخصية. كما أنّ المطالبات العديدة والمتكرّرة ، الصادرة عن نقابة المحامين في بيروت وعن عدد من الأحزاب العلمانية والهيئات المدنية … ، بإصدار قانون مدني للأحوال الشخصية ، لم تلقَ استجابة من قبل المسؤولين وأصحاب القرار في هذا الشأن، حتى الآن ؛ كما أنّ اقتراح القانون ، في هذا الخصوص – الذي صدّقته الحكومة اللبنانية بأكثرية واحد وعشرين صوتاً ضد ستة وامتناع وزير واحد عن التصويت –
لم يصل ، حتى الآن ، إلى مجلس النواب لعرضه على المناقشة ، والتصويت.
لقد ظلّ المعهد الفرنسي للحقوق ، الذي أُنشئ عام 1913 ، وحيداً ، حتى تاريخ إنشاء الجامعة الوطنية عام 1953 ، التي لحظت – لاحقاً – كلّية لتدريس الحقوق ، بين كلّياتها المستحدثة.
ثمّ جاءت جامعة بيروت العربية (مصرية) ، وجامعة الكسليك وجامعة الحكمة والجامعة الاسلامية ، لتمارس كلّ منها تدريس الحقوق ضمن إطار نشاطها التعليمي ، ووفق انتماء ثقافي خاص بها.

ثالثاً ، المرتجى للمستقبل :
هذه الكثرة في عدد الكلّيات الجامعية القائمة ، اليوم ، بتدريس الحقوق ، في لبنان ، قد تشكّل دليل عافية من جهة ، ودليل وهن من جهة أخرى. فغياب الخطّة التربوية الوطنية ، التي تلحظ الإحتياجات الحقيقية للمجتمع المحلّي ، عن اهتمامات المسؤولين في السلطة السياسية ، وانتفاء التوجيه في اختيار الاختصاصات الجامعية ، من شأنه أن يعرّض الشباب للوقوع في العشوائية ، وفي إغراءات السهولة ،
ولو رخيصة.
وبعد تحقيق واجب إبعاد التعليم الجامعي عن التجاذبات السياسية الداخلية ، القاتلة ،
يبقى تحديث هذا التعليم ، في أساليبه وفي وسائله ، مطلباً ملحاً من أجل انتاج النوعية العالية من الخرّيجين ، على حساب الكمّية. وعندئذٍ ، يمكن لكلّيات الحقوق القائمة في لبنان ، ولا سيّما الرسمية منها ، أن تفاخر بأنّها الحفيدة الشرعية لمدرسة “بيريت” العظيمة ، وأن تعيد إلى بيروت عزّها الحقوقي المنقضي !!. ولم لا ؟ ، فالعنصر البشري فيه متوفّر ومهيّأ ؛ والموقع الجغرافي للمدينة مُسهِّل ؛ والاستقطاب لثقافتي الشرق والغرب حاصل على أرضها : وكلّها أمور تجعل من بيروت مدينة قادرة على استعادة مجدها التشريعي ، على أن تخلص النوايا وتتوفّر الرغبة الصادقة والخطّة السليمة لدى من في يدهم السلطة ، والقرار.

وبالعودة إلى مدرسة بيريت :
لا بدّ لكلّ مشتغل في حقل التشريع ، وفي مجال تاريخ القوانين ، من الإقرار بأنّ تاريخ مدرسة بيروت الحقوقية يشهد على نجاحها ، المؤكّد بشهادات عديدة وموثوقة ومتطابقة ، وعلى استمرار هذا النجاح منذ تأسيسها في أواخر القرن الثاني الميلادي وحتى تاريخ تدميرها بالزلزال عام 551.
هذا النجاح كان مثالاً فريداً في تاريخ جامعات الزمن القديم ، بحسب ما يجزم به بول كوللينه. لأنّ روما نفسها قد انتهت هيمنتها خلال عصر الامبراطورية السفلى ، وخسرت مدرستُها تفوَّقها لصالح المقاطعات. هذا النجاح المستمرّ لمدرسة بيروت يعزوه غرغوار لوتوماتورج (Grégoire le Thaumaturge) إلى صيرورة هذه المدينة “رومانية” أكثر من أية مدينة أخرى في الشرق. ذلك أنّ الأباطرة قد اتخذوا منها مركزاً لإيداع القوانين الرومانية ، وتخزينها ؛ ولأنّ القانون الروماني كان يدرّس ، فيها ، بروحية روما. ولم تستطع مدرسة الاسكندرية منافستها لغلبة الطابع اليوناني على هذه الأخيرة ؛ وكذلك الأمر بالنسبة للمدارس الحقوقية الأخرى في سائر المقاطعات الرومانية.
لقد تشاركت بيروت ، في العظمة ، مع روما. ومع القانون الروماني. وهي
لم تتراجع قط نتيجة التقهقر الذي أصاب روما ؛ بل على العكس ، إزدهر تعليم الحقوق في مدرستها ، وبلغ أوجه. وإذ عرفت مدرستها كيف تطوّر نفسها ، وكيف تبعد عنها الأخطار التي يمكن أن تهدّدها ، فابتعدت نهائياً عن روما ، واقتربت من القسطنطينية ؛ وظلّ أساتذتها الكبار يدرّسون القانون الروماني ، وعرفوا كيف يزاوجون بينه وبين الفكر اليوناني. لقد انتصرت بيريت ، وأصبحت المدرسة الوحيدة ، الخلاّقة ، في العالم بأسره ؛ وتُوّجت بالمجد لدى إشراك أساتذتها في إعداد وصياغة تقنيات جوستنيان ، التي تدين لها – اليوم – تشريعات معظم بلدان العالم المتمدّن.
وخلاصة القول :
أن اختيار بيروت ، من قبل أمم العالم ، عاصمة عالمية للكتاب ، للعام 2009 ، لم يأت من فراغ : فبيروت ، اليوم ، هي مكتبة الشرق ، وفيها تطبع أهمّ الكتب والمجلاّت والأبحاث والمراجع العلمية الصادرة في البلدان المجاورة ؛ وبأقلام مفكّريها وأدبائها ومثقّفيها تُكتب أهمّ الدراسات والتحليلات والتعليقات التي تهمّ المنطقة.

وكم كنّا نتمنّى لو أنّ المسؤولين اكتشفوا قيمة الثروة المدفونة تحت الأرض ، المتمثّلة في مدرسة بيريت وكتبها الحقوقية الثمينة ، قبل إعادة إعمار وسط بيروت ، فعمدوا إلى استخراج ما سلم منها ، وإلى ترميمها وإعادة نشرها في العالم كلّه : لأدّى ذلك وحده ، في نظرنا ، إلى تكريس بيروت ، ليس فقط عاصمة عالمية ، بل وأيضاً أبدية ، للكتاب.

بيروت أم الشرائع – إعداد د. أميره أبو مراد

أضف تعليق